الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{ذلك} الذي قضى الله به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم حق {لمن خاف مقامي} يريد موقف الله الذي يقف به عباده يوم القيامة وهو موقف الحساب، أو المقام مصدر أي خاف قيامي عليه بالحفظ والمراقبة كقوله: {أفمن هو قائم على كل نفس} [الرعد: 33] أو قيامي بالعدل والصواب مثل {قائمًا بالقسط} [آل عمران: 18] أو المقام مقحم أي خافني مثل سلام الله على المجلس العالي: {وخاف وعيد} قال الواحدي: هو اسم من الإيعاد وهو التهديد. قال المحققون: إن الخوف من الله مغاير للخوف من وعيد كما أن حب الله مغاير لحب ثواب الله، وهذه فائدة عطف أحد الخوفين على الآخر. قوله: {واستفتحوا} الضمير إما للرسل والمعنى استنصروا الله على أعدائهم أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة، وإما للكفرة بناء على ظنهم أنهم على الحق والرسل على الباطل. وعلى الأول يكون في الكلام إضمار التقدير: فنصروا وفازوا بالمقصود. {وخاب كل جبار عنيد} معاند. وأصل العنود الميل من العند الناحية والجانب كأن كلًا من المتعاندين في جانب آخر. قيل: الجبار وهو المتكبر إشارة إلى أن فيه خلق الاستكبار، والعنيد إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانبًا للحق منحرفًا عنه وأصل الكلام على الأول: واستفتح الرسل وخاب الكفرة، وعلى الثاني: استفتحوا وخابوا. فوضع الأعم موضع الأخص. والظاهر مقام الضمير تنصيصًا على الكفرة بأن سبب خيبتهم عن السعادة الحقيقية تجبرهم وعنادهم {من ورائه} أي من بين يديه. يقال: الموت وراء كل أحد. وذلك أن قدام وخلف كلاهما متوارٍ عن الشخص فصح إطلاق لفظ وراء على كل واحد منهما. وقال أبو عبيدة: هو من الأضداد لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر.وهذا وصف حاله في الدنيا أو في الآخرة حين يبعث ويوقف. قال جار الله: قوله: {ويسقى} معطوف على محذوف تقديره يلقى في جهنم ما يلقى {ويسقى من ماء صديد} أي من ماء بيانه أو صفته هذا. والصديد ما يسيل من جلود أهل النار واشتقاقه من الصد لأنه يصد الناظر عن رؤيته أو تناوله. وقيل: يخلق الله في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة. {يتجرعه} يتكلف جرعه {ولا يكاد يسيغه} أي لم يقارب الإساغة فضلًا عن الإساغة قيل: ليس المراد بالإساغة مجرد حصول المشروب في الجوف لأن هذا المعنى حاصل لأهل النار بدليل قوله: {يصهر به ما في بطونهم} [الحج: 20] وإنما المراد جريان المشروب في الحلق في الاستطابة وقبول النفس لا بالكراهية والتأذي. قلت: يحتمل أن يراد بالإساغة مجرد الحصول، والآية- أعني قوله: {ويصهر}- لا تدل على الحصول لقوله قبله: {يصب من فوق رؤوسهم الحميم} [الحج: 19]. {ويأتيه الموت من كل مكان} من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل: من أصل كل شعرة. وقيل: المراد أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ومع ذلك فإنه لا يموت فيها ولا يحيا. ثم أخبر- والعياذ بالله- أن العذاب في كل وقت يفرض من الأوقات المستقبلة يكون أشد وأنكى مما قبله فقال: {ومن ورائه عذاب غليظ} عن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. قال في الكشاف: يحتمل أن يكون أهل مكة استفتحوا أي استمطروا. والفتح المطر في سني القحط التي سلطت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء أحرّ وهو صديد أهل النار. وعلى هذا الفسير يكون قوله: {واستفتحوا} كلامًا مستأنفًا منقطعًا عن حديث الرسل وأممهم. اهـ.
وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي الدنيا في صفة النار، وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور، عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه} قال: «يقرب إليه فيتكرهه، فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يقول الله تعالى: {وسقوا ماء حميمًا فقطع أمعاءهم} [محمد: 15] وقال: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} [الكهف: 29].وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: {من ماء صديد} قال: ما يسيل بين جلد الكافر ولحمه.وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {ويسقى من ماء صديد} قال: القيح والدم.وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث والنشور، عن مجاهد في قوله: {من ماء صديد} قال: دم وقيح.وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {ويسقى من ماء صديد} قال: ماء يسيل من بين لحمه وجلده.وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن رضي الله عنه قال: لو أن دلوًا من صديد جهنم دلي من السماء فوجد أهل الأرض ريحه، لأفسد عليهم الدنيا.{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {ويأتيه الموت من كل مكان} قال أنواع العذاب. وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت؛ لأن الله لا يقضي عليهم فيموتوا.وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} قال: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه، فيموت. ولا ترجع إلى مكانها من جوفه، فيجد لذلك راحة فتنفعه الحياة.وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ميمون بن مهران رضي الله عنه في قوله: {ويأتيه الموت من كل مكان} قال: من كل عظم وعرق وعصب.وأخرج أبو الشيخ في العظمة، عن محمد بن كعب رضي الله عنه في قوله: {ويأتيه الموت من كل مكان} قال: من كل عضو ومفصل.وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن إبراهيم التيمي رضي الله عنه: {ويأتيه الموت من كل مكان} قال: من كل موضع شعرة في جسده: {ومن ورائه عذاب غليظ} قال: الخلود.وأخرج ابن المنذر عن فضيل بن عياض في قوله: {ومن ورائه عذاب غليظ} قال: حبس الأنفاس.{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد} قال: الذين كفروا بربهم عبدوا غيره، فأعمالهم يوم القيامة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم، كما لا يقدر على الرماد إذا أرسل في يوم عاصف.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه في الآية قال: مثل أعمال الكفار كرماد ضربته الريح فلم ير منه شيء، فكما لم ير ذلك الرماد ولم يقدر منه على شيء، كذلك الكفار لم يقدروا من أعمالهم على شيء.وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله: {كرماد اشتدت به الريح} قال: حملته الريح. اهـ.
|